الأستاذ عبد القادر صيد كاتب متمكن من ناصية الكتابة، نظما ونثرا، ذو ثقافة موسوعيّة تميل إلى الأدب أكثر، مع مشاركة في التّاريخ والتّراث، يصحّ أن نطلق عليه نابغة الخلدونيّة في القصّة، إذ هو لم يكتب القصّة إلا في أواخر الأربعين من عمره، لكنّ له في الشعر تجربة أسبق، وقد أعياني أن أُسمّيه شاعرا أم قاصّا.. ! لأنّه كتب في الشعر فأجاد وأبدع حتى جمع ما يصلح أن يكون ديوانا، وقد جمعه وينتظر أن يطبع، ثمّ خطر له – ربّما فجأة – أن يكتب في القصّة فكتب بشكل كثيف ومتتابع كأنّه السيل الهدّار، حتى قلت له ذات مرّة: ( لقد أمطرتنا بقصصك ، فهل تركتَ الشّعر وتحوّلت إلى القصّة..؟ ) فقال: لا ..إنّما هي تجارب أخوضها..
والحقّ أنّني وجدته يبدع في القصّة أكثر منه في الشعر، ولا يعني ذلك أنّه ليس شاعرا، بل له نَفَسٌ شعريّ مميّز، ربّما هو أشبه ما يكون بالشعر الفلسفي العميق، الَّذي لا تُدرَك معانيه كاملةً من أوّل وهلة..
ولن أتحدّث هذه المرّة عن شعره فإنّ لذلك أوانه، وسأتحدّث عن ( الحالة القصصيّة )، أو ظاهرة النّبوغ في القصّة بعد الأربعين.. !، بداية أسجّل أنّ الأستاذ عبد القادر صيد كما أعرفه له القدرة على الكتابة في أيّ ميدان يشاء، فهو يمتلك القدرة اللغويّة، والأسلوب السّلس، والثقافة الواسعة، كما يتميّز بروح مرحة ودعابة رائعة، يميّزها حضور البديهة والرّد السّريع المناسب.
كتب الأستاذ عبد القادر صيد في بضعة أشهر ما يربو على الأربعين قصّة، أي ما يصلح أن يكوّن مجموعتين قصصيّتين، ورغم أنّ علاقة صداقة متينة تربط بيني وبين الأستاذ عبد القادر، إلا أنّ ذلك لا يجعلني في حرج أن أقول رأيي في ما يبدعه بكلّ صراحة ووضوح، وقد يرى بعض من يقرأ هذا الكلام أنّي سأكون بعيدا عن الموضوعيّة والحكم النّقدي النزيه، إلا أنّ ذلك لا يمنعني من قول رأيي وإبداء موقفي النّقدي، وعلى القارئ أن يحكم بعد ذلك بما يشاء لي أو عليّ ولصديقي، أو عليه.. فلا نحجُر واسعا، ولكلّ مثقف أن يقول رأيه في غيره من المثقفين والكتّاب، قرُبوا منه أم بعُدوا راقوا له أم لم يروقوا.. !
عبد القادر القاصّ ( النّابغة ).
لا أقصد بالنّابغة التفوّق والتألّق في ميدان القصّة، فذلك أمر لم يأت أوانه بعد، لأنّ الكاتب ما يزال حديث التّجربة في هذا المجال وقد يأتي أوان التألّق والنجوميّة في يوم ما..!، وإنّما أقصد بالنّبوغ المصطلح النّقدي القديم الذي كان يطلق على الشّاعر إذا ما قال الشعر بأَخَرَة، أو قاله بعد سنّ الأربعين كما تُحدّثنا بذلك روايات التّاريخ الأدبي والتّراجم، لكنّ صاحبنا ما نبغ في الشعر بعد الأربعين، ولكن نبغ في القصّة.
أذكر أوّل قصّة كتبها، أو أوّل قصّة قرأتها له، كانت بعنوان ( الصّديقان )، كانت القصّة مكتوبة ( قبل النّشر طبعا ) بأسلوب كلاسيكي كما اصطلح على تسميته، وسألني عن رأيي فيها، فأبديت إعجابي، ولكن قلت له أنّ هذا النمط من الأسلوب لم يعد رائجا في الوقت الحالي، وإنّ الحداثيين لن يقبلوا بمثل هذه القصّة، أو كلاما يشبهه، فأبدى استعداده أن يكتب القصّة بأسلوب مختلف، وظننت في نفسي أنه سينجح، لكن لم أتوقّع أن يخرج قصّته خلقا آخر، قوّة سبك وجودة سرد، وإبداعا فنيّا مدهشا.
خرجت القصّة في ثوب مختلف تماما، ثوب خلّاب، وصور فنيّة باهرة نكتفي بذكر ثلاثة مشاهد منها:
المشهد الأوّل يصف فيه شيوخا جلسوا مستندين إلى جدار أثناء الثورة التحريريّة.
" اصطفوا كأنهم ركام من العظام الرميم تعرض نفسها على أشعة الشمس الخافتة لتستمد منها الطاقة، أو أكوام من الحطب تنتظر من يشعل فيها النار.."
المشهد الثاني:" .. مواطن الأشجار المثمرة البعيدة التي تقدم خلاصتها جائزة لمن تمرّس بفجاج المنطقة ". المشهد الثالث: " كبرت هذه الوساوس في رأسه كورم خبيث ينزف شكا من فرط حك التفكير ". والصّور تتحدّث عن نفسها، لا تحتاج سوى تأمّل يسير ليُدرَك وذائقة فنيّة مرهفة، لتجلى معانيها العميقة.
حالة الإبداع القصصي ( أوّل الهدير )..
عندما كتب الأستاذ عبد القادر صيد قصّته الأولى ( الصّديقان )، وكانت ناجحة جدّا بمقاييس الفنّ الإبداعي؛ لم يتوقّف ليأخذ نفسا أو ينتظر فترة من الزّمن.. بل أعقبها مباشرة بوابل من القصص القصيرة الأخرى والتي تتراوح في قوّتها الفنيّة بين مماثلة قصّة ( الصّديقان ) أو التفوّق عليها وفي أحيان قليلة؛ التأخّر عنها درجة..
وما لفت انتباهي أيضا هو قرب المدى الزّمني بين هذه القصص، وقد تتبعتها حيث نشرت في صفحة اتّحاد الكتاب أو بعض الفضاءات الافتراضيّة الأخرى فوجدت الفارق الزّمني بينها لا يتعدّى في المتوسّط أربعة أو خمسة أيّام، وهذا مؤشّر على حالة إبداعيّة خاصّة ( نبوغ متدفّق ومتتابع )، وكانت هذه القصص إمّا قصصًا قصيرة مثل ( الصّديقان ) و( شجاعة القطيع ) و( إنّها تمطر جثثا ولجوءا )، و( براق الشّهادة يصهل في غزّة )، وإمّا قصصا تشبه القصص القصيرة جدّا من مثل قصص( البرنس ) و( ملء الفراغ ) و( الحنين ) و( الاستقبال ).
وهناك قصص أخرى لم يَشأ الكاتب أن يصنّفها في كثير من الأحيان، يمكن أن نضَعها في خانة القصّة ( الومضة )، وهي نوع من الإبداع الأدبي الذي انتشر مؤخرا وصار له كتّاب وقرّاء، وهو يشبه إلى حدّ كبير ( اللَّافتات ) الشّعريّة، ولعلّه أيضا هو أقرب إلى الشعر منه إلى النّثر، وربّما يحيي عهد المقطوعات التي كان يكتبها العرب قديما، قبل إطالة النّفس في الشعر، حتى جاء المهلهل وطوّل فيه وفصّل كما قيل فسمي ( المهلهل )، ومن أمثلة تلك القصص عند الأستاذ عبد القادر صيد قصّة ( حدّ الحدس ) و( موجات العواطف )..
وكتب أيضا الأستاذ عبد القادر صيد الخاطرة وهي في مرّات عديدة شعر لم يكتمل، أو قصّة لم تكتمل، وربّما كانت في مرّات أخرى ( كلاما ) مرسلا على عواهنه، لا يريد له الكاتب تصنيفا فهو من حديث النّفس بصوت جهير.
ونلاحظ أنّ الكاتب عبد القادر صيد قلّ تدفّقه في كتابة القصّة القصيرة، بعد هذه الموجة التي دامت بضعة أشهر، وأصبح هناك تباعد كبير بين كلّ قصّة وأخرى، وغدا يعتاض عن ذلك بكتابة الومضات والخواطر المرسلة ( حديث النّفس الجهير ).. ولا ندري سببَ ذلك ربّما وهي قفة لتقييم ( الموجة الأولى ) من كتابة القصّة، والتي توقّف خلالها الأستاذ عبد القادر صيد عن كتابة الشعر، إلا لمامًا..
وربّما شعر بنوع من الفتور في مرحلة من المراحل في كتابة القصّة، فكتبة قصّة قصيرة جدّا بعنوان (ملء الفراغ ). ولأنّها قصيرة جدّا ومميّزة وذات أبعاد دلاليّة عميقة لا بأس من إثباتها هنا كاملة:
" مرت عليه أيام و لم يجد ما يكتبه للناس.. أقدم على سياسة ملء الفراغ بخلق عدو وهمي، فافتعل مشكلا و تدنكش ..بهذه الدنكوشوتية تغير كلامه من المرارة إلى الملوحة و لو سبر صدره لوصل إلى النبع الزلال ".
ولا بأس أيضا أن نقف عندها وقفة تأمّل واستقراء، لنستوحي بعض مظاهر الفعل الإبداعي عند الأستاذ عبد القادر صيد في هذه المرحلة..
قد ينتاب المبدع حالة من الجفاف الإبداعي لأسباب كثيرة، لكنّ الرّغبة في الإبداع تبقى دائما كامنة في نفسه تتململ بين الفينة والأخرى، مثل الضمير الذي يؤنّب صاحبه، على تقصير ما، أو سلوك معيب يقارفه في ساعة ضعف، وتوقّفُ الكاتب أو القاص والشّاعر عن العطاء ولو لفترة معيّنة يعتبره صاحبه كأنّه مَأْثَمة وقع فيها، أو منقصة ينبغي معالجتها..
وأكثر الخوف؛ من نضوب الإبداع هذا ما يقلق ( المبدع ) أكثر، المبدع أصلا تتملّكه حالة قلق مستمرّة، وكثيرا ما تزدحم في رأسه الأسئلة: ( هل إبداعه يلقى قبولا لدى القارئ..؟ هل هو يكتب بالمستوى الفنيّ الذي يأمله ؟ هل ما كتبه يستحقّ عناء كتابته ؟ هل سيكتب أفضل مما كتب سابقا ؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها تزدحم في رأسه وتثير مكامن القلق في ذاته !
ولذلك استهلّ الكاتب ( عبد القادر صيد ) قصّته بهذه الجملة:
" مرت عليه أيام ولم يجد ما يكتبه للناس " كأنّه يشعر بضرورة أن يكتب للنّاس، قضاء حتما، وإذا لم يواتِ الإبداع فلابدّ من إرغامه على المجيء، ولما فعل ذلك وبشيء من التّكلّف ! ولأنّه مبدع – مهما كان الأمر – فإنّ ما يكتبه لا يمكن أن يكون لغوا، لابدّ من أن يكون فيه شيء من الفنّ والتميّز..
وهذا ما نفهمه من قوله:
" تغير كلامه من المرارة إلى الملوحة و لو سبر صدره لوصل إلى النبع الزلال "، نفهم من ذلك أنّه لو لم يتسرّع لجاء إبداعه أكثر جودة وأكثر جمالا، لكان في النّهاية ( النّبع الزلال ).
قلم شاعر وريشة فنّان..
إذا التقى قلم الشّاعر وريشة الفنّان، كان الإبداعُ قبضةً علويّة، تهبط في لحظة إلهام على ورقة بيضاء فتشعّ فتّانةً وخلّابة، فإذا كانت الورقة فضاءً افتراضيّا مفتوحا على كلّ الأبعاد زادت الفتنة وأشعّ السّحر الحلال..
هذا التوصيف يمكن أن نسقطه بكلّ جرأة وثقة على كثير من قصص الأستاذ عبد القادر صيد، فنحن نجد فيها الجملة الشّعريّة المتوهجة بالعواطف والمشاعر الرّقيقة، وفيها نسغ الشعر بهيّ ريّان لا تخطئه العين، كما نجد فيها الصّورة الفنيّة الَّتي لا يمكن إلا أن تُنسَج تفاصيلها من ألوانٍ وأضواء وظلال، وأبعاد مكانيّة وزمانيّة حيّة دافقة.
وهذان العنصران الأساسيان ( النّفَس الشعريّ، والتصوير الفنيّ ) يضفيان على القصّة تكثيفا فنيّا يثري مضمونها، ويضاعف من دلالاتها ومراميها.
عرض القاص عبد القادر صيد لموضوعات شتى فيما كتبه من قصص، فقد عالج موضوع القضيّة الفلسطينيّة في قصّته (براق الشّهادة يصهل في غزّة )، كما رجع إلى موضوع الثورة التحريريّة فتحدّث عنه في عدّة قصص منها قصّته ( الصّديقان )، وقصّة (حين صُفع القايد )، كما كان للفعل الإبداعي نصيب أوفر من قصصه فعالجه في قصص (كاهن المدينة ) وقصّته القصيرة جدّا ( الأسلوب )، و( ملء الفراغ ) و(سماد الصفحة البيضاء ) وهناك قصص فلسفيّة أشبه ما تكون بالقصص الذهنيّة التي تعالج فكرة ما في الذٍّهن مثل ( السّباحة في محبرة القسم ) و( على ضفاف اللّيل ) والقصص الرمزيّة مثل قصّة ( الحنين ) ..
وبعض القصص هي أقرب إلى الطّابع الروائي منها للقصّة، مثل قصّة ( كم أنت كبير يا صديقي ) وقصّة ( غريب الأطوار ).
وقد كتب القاص عبد القادر صيد بالأسلوبين التقليدي والحداثي باقتدار كبير، فهو لا يساير الموجة الجارفة ولكن يطوّعها لتخدم أفكاره وموضوعاته التي يريد أن يعالجها، فإذا رأى أنّ الموضوع لابدّ أن يُكتب بأسلوب حداثي ذا تكثيف في الفكرة، ورمزيّة في الدّلالة وإيحاءات متتابعة تحتاج إلى تأمّل وتحليل وإعادة قراءة مرّتين وثلاث، لتعطيك رحيقها المختوم، لجأ إلى الأسلوب الحداثيّ واستخدم أدواته، وإذا رأى أنّ الموضوع يتطلّب سردا كلاسيكيّا معتادا يومئ إلى الهدف مباشرة ويسمّي الأسماء بمسمّياتها، ويحدد الشخصيات وتسلسل الأحداث، والإطار المكاني والزماني فعل ذلك بأسلوب قويّ وسرد متدفّق يشدّك شدّا، ويجعلك تمسك أنفاسك وأنت تقرأ توالي الأحداث مثلما فعل في قصّة ( براق الشهادة يصهل في غزة ).
بين يديّ العناوين..
سار القاص على النّسق نفسه في اختيار عناوين قصصه، بعضها كأنّما هو عنوان قصيدة شعريّة فيه قوّة الإيحاء والتكثيف والرّمزيّة مثل (إنها تمطر جثثا و تمطر لجوءا )، و(السباحة في محبرة القسم)، و( بعض الصمت نزيف الصراخ )، و(سماد الصفحة البيضاء ). وبعض آخر مباشر يكاد يعطيك مضمون القصّة على طبق من ذهب، مثل قصص (حين صُفع القايد )، و( الصّديقان )، و(غريب الأطوار ). والغريب أنّ في كثير من قصص تلك العناوين ( إبداع فنّي مدهش ونسق أسلوبي ساحر )، ما يجعل من تلك العناوين المباشرة الحلقة الوحيدة الأضعف في تلك القصص، وكان بإمكان القاص أن يختار عناوين أقوى وأكثر فنيّة، فعنوان مثل ( لو كان الحرّ رجلا لقاتلته ) هو أبعد ما يكون عنوانا لقصّة حديثة، إنّه يذكّرنا بطُرف وملح الأعراب القديمة التي نقرأها في كتب التّراث الأدبيّة، وإن كانت دلالته قويّة وهو يصلح أن يكون عنوانا لمقال، وفيه نوع من التمثّل لمقولة أُثٍرت عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه حيث قال:
" لو كان الفقر رجلا لقتلته " في حين نجد أنّ مضمون القصّة راقٍ جدّا وفيه من المعاني العميقة؛ ما يجعل للقصّة قيمة فنيّة كبيرة. وهناك مأخذ آخر في تلك العناوين هو طولها في بعض القصص، وهو ما يتناسب أكثر مع المقال وليس مع الشعر أو القصّة. والغريب أنّ الكاتب شاعر له حسّ الشّاعر وقاموسه اللفظي المختصر جدّا، ولا أجد لتلك العنونة الغريبة بعض الشيء إلّا أنّ الكاتب حديث عهد بكتابة القصّة، ويعتبرها تجربة ما تزال في طورها الأوّل وربّما هو نفسه لا يدري إلى أيّ شيء ستفضي به ! وإن كنت أنا أزعم أنّه ملك عنان السرد القصصي، وتمكّن من آلياته، كأي كاتب آخر محترف، ولعلّ لذلك أسبابه أيضا، ومنها:
- الموهبة..فهو قاص بالفطرة يكثر في حديثه وحواراته مع أصدقائه سرد القصص والاستدلال بها، مع بصمة خاصّة يُضفيها عليها من نَفسِه المرح، وروح الدّعابة التي تغلب على شخصيّته.
- امتلاك اللّغة.. فهو أحد فرسانها المغاوير، وحماتها المستميتين في الذّب عن حياضها.
- ثقافته الأدبيّة العميقة.. إذ يمكننا أن نقول أنّه خِرِّيج ثلاث مدارس عريقة في التّاريخ الأدبي لأمتنا العربيّة؛ مدرسة الجاحظ، ومدرسة المتنبي، ومدرسة العقّاد، مع إلمام كبير بكلّ المدارس الأخرى.
جماليات التّصوير الفني
الإبداع الشعري أو القصصي بغير تصوير فنيّ أرض ( قيعان ) لا تمسك ماءً ولا تُنْبِت كلأً، فالصّورة الفنيّة تضفي على القصّة جمالا أخّاذا وإشراقا فاتنا، يزيد المعاني سموّا وألقا، ويجعل القارئ يستمتع بما يقرأ، ويفهم ما يقرأ بشكل أفضل فتتشربّه روحه، ويأخذ بمجامع قلبه. ولقد ازدانت قصص الأستاذ عبد القادر صيد بمسحة من التّصوير الفنّي المدهش، بحيث نرى صورا جميلة غير معتادة ولا مألوفة، حتّى لَيقولَ القارئ أنّى تأتّى له ذلك، وكيف واتته تلك الصّورة بهذا الجذب وهذا البهاء، وهذا التّفرّد.
نماذج مجنّحة:
ولكي نلمس بعضا من جماليات تلك الصور الفنيّة بأيدينا ونتذوّقها بأحاسيسنا؛ لزاما علينا أن نأخذ نماذج من القصص ونسلّط عليها ضوءا كشّافا، يرينا مكامن الروعة والسّناء في دقائق تفاصيلها:
- ولتكن البداية بقصّة ( إنها تمطر جثثا وتمطر لجوءا ):
نقتبس منها ثلاث قطفات يقول في أولاها:" حينما ترقص حوافر الحقد المسعورة " ويقول في الثانية " ضاق ظهري بجثث أحبابي فدفنت معهم أحلامي " أمّا المشهد الثالث فيقول فيه:" و حملت على ظهري أيضا بعض الشظايا لأقصها قطعا وأجعلها بطاقات زيارة تعرّف بي ".
جعل للحقد حوافر زيادة في التأثير وتبشيعا لصورة الحقد نفسه، وهي فوق ذلك ترقص في سعار محموم، فأيّ شيء أقوى من ذلك يمكن أن نصف به الحقد، صورة فيها نوع من الاختلاف والتميّز، الذي ينأى بالقارئ عن الصّور الرتيبة الأخرى.
وفي المشهد الثاني يحمل القاص جثث أحبابه، كأنّه قابيل يحمل جثّة أخيه هابيل، مع الفارق أنّه ليس القاتلَ، لكنّه يحمل ذنب القتل الذي علِق منه بثوب الإنسانيّة بعض رشاش، لا يطهّره إلا دفن الأحلام مع تلك الجثث، ولعلّها طريقة الكاتب في الخلاص، من الإثم العظيم الذي تنوء به الجبال، وباء به ابن آدم وحده.
ولا يزال في الظهر متسع لحمل الرزايا فحمل هذه المرّة بقايا من شظايا، صنع منها بطاقات تعريف، كأنّها تدلّ على تاريخ البطل المعرق ( والغارق ) في النّكبات والمآسي.. صور قويّة ومعاني عميقة، تضفي على النّص إشعاعا، وجاذبيّة تجعله يسحر القارئ ويستولي على اهتمامه بكلّ عنفوان.
- وفي قصّة ((براق الشّهادة يصهل في غزّة )، نجد جملة من الصّور الفنيّة البديعة والتي تتساوق مع المعنى المغلّف في رسائل مشفّرة داخل النّص، من تلك المشاهد ( الصّور ) الفنيّة قوله:
" ـ سمعت بأنّ الذعر يطوف في المدينة ولم يجد مكانا يستقر فيه.. سيتسلّل إلى قلبك حتما إن لم تملأه بالغضب والانتقام.. اغضب ودع الذعر يبيت في العراء أو يرجع إلى من أرسلوه، فإن الذّعر جبان لا يبيت إلا بين أهله ..."
وهذه صورة فنيّة مركّبة إلى درجة أنّها جسدت ( الذّعر ) كأنّه كائن يدرك ويتحرّك ويبحث ويفتّش، ويسعى إلى أن يسكن في نفس البطل، الذي هو في الغالب الإنسان الفلسطيني، ثمّ إنّ هذا الذّعر الذي يسوقه العدوّ من طبيعته الجبن، مثله تماما مثل من يسوقه ويحاول نشره بين أهل غزة، فهو جبان مثل أصحابه الصهاينة تماما، ولذلك يخاطب البطل نفسه قائلا:
"اغضب ودع الذعر يبيت في العراء أو يرجع إلى من أرسلوه، فإن الذّعر جبان لا يبيت إلا بين أهله " إنّها رسالة قويّة معبأة بزخم ثوري كاسح بأن نجعل الذعر ( يذعر ) منّا، وليرجع إلى أهله من اليهود وأحرى به أن يبيت بين ظهرانيهم، فهم أولى به وهو أولى بهم.
ولكي تكتمل صورة الغضب الثوري ويحقق ما يسمّى بتوازن الرّعب، لابدّ من إقرار حقيقة عرف بها الإنسان الفلسطيني، وكلّ إنسان ثوري مقاوم؛ هو محبّته بل عشقه لوسائل الكفاح الوسائل الماديّة خاصّة، من قنابل ورشاشات وديناميت يتطاير منه البارود، هذه الرّائحة التي تشربتها عروقه، وصارت بعضا من خلاياه تحمل له نبض الحياة، وفي ذلك يقول:
" إنها تشم رائحة الديناميت في عروق هذا الشعب و تشتاق لمعانقته "
- وفي المشهد الثالث في قصّة ( المقال الأسبوعي )؛ نجد صورا مشابهة وتقنيات ممثالة تعزف على وتر التكثيف الفني بواسطة الصور المجسّدة للفكرة، كأنّها تُسمع وتُرى وتُلمس باليد. تخيّل أنّ عيني البطل مُشطا يتخلّل شوارع المدينة ويتفحّصها بدقّة متناهية، إذ يقول الكاتب:
" و عيناه تمشطان شوارع المدينة "
وفي الصورة الثانية نجد المفارقة المدهشة مع الصورة التمثيليّة حيث يقول:
" ـ لا تخافوا لن أرجمكم بالحجارة لأنني أعلم أنها شقيقة قلوبكم من ثدي القساوة "
كان من الطبيعي أن يقول: أنتم تستحقّون الرجم بالحجارة، لشدّة قساوة قلوبكم وغلظتها، ولكنّه يبالغ في المشهد إلى حدّ أن تنقلب الصورة، فيتعفف البطل عن رجمهم بالحجارة، لأنّها بكلّ بساطة شقيقة قلوبهم، فهي ليست تماثلها وحسب، وليست أختها فقط، بل هي شقيقتها، رضعتا من ثدي واحدة هي ثدي ( القساوة )، وهذا المشهد يذكرنا بقول الله تعالى:
" ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً "
ولذلك يتمّم الكاتب الصورة بقوله في سخريّة مدهشة:
" سيدتي الحجارة تبرئي منهم رسميا بعد أن تيممت بأيدي أطفال فلسطين "
نعم هو الأمر كذلك " وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ "
وفي جلّ قصص الأستاذ عبد القادر صيد نجد الصور الفنيّة الكثيفة والمتتابعة، كأنّنا أمام فيلم سينمائي متلاحق الأحداث والمشاهد، وهذه المشاهد ليست أبيض وأسود فقط، بل هي مشاهد ملوّنة متراكبة متداخلة، تجعل القارئ يقف عندها طويلا مستنطقا تفاصيلها ودقائقها، ليستمتع بدفقها الفنيّ الجميل والبديع.
قصّة ( شجاعة القطيع ) أنموذجا..
ظاهرة النّبوغ القصصي عند الأستاذ عبد القادر صيد أمرٌ ملفت للانتباه فعلا، فقد قلنا فيما سبق أنّه يشبه النبوغ الشعري عند شعراء الجاهليّة، ووجدنا له في العصر الحديث مُشابها آخر في الجانب القصصي؛ تمثّلَ في الروائيّة البريطانيّة الشهيرة ( جوان رولينج موراي ) التي كتبت روايات هاري بوتر، والتي شرعت في كتابة رواياتها بعد سنّ متأخرة نسبيّا، ولقيت نجاحا كبيرا، بل نجاحا منقطع النظير وفي زمن قياسيّ.
ولكي نستكمل دراستنا عن ظاهرة النّبوغ القصصي عند الأستاذ عبد القادر صيد في موجته الأولى، والتي يبدو أنّه شرع في مدّها بموجة أخرى أكثر تميّزا وجاذبيّة، بعد وقفة التقاط الأنفاس التي لم تدم طويلا، لكي نستكمل هذه الدّراسة ونكون قد وضعنا القاصّ تحت منظار مقرّب؛ لابدّ من أخذ عيّنة من قصصه، ووضعها على طاولة التشريح النّقدي، وإعمال مبضع التحليل فيها..
ولقد اخترت عيّنة من بداياته الأولى وبدت لي أنّها أكثر تمثيلا لأسلوبه وطريقته في ( الحكي )، هذه القصّة بعنوان ( شجاعة القطيع )، وهي تكاد تكون نصّا شعريّا بامتياز، وتعدّ خير مثال على سطوة الشعر بالقصّة، أو تماهي الشعر في القصّة وتماهي القصّة في الشعر، إنّها قصّة اللّقاء الحلم، الحلم الذي طالما تمنّاه المبدعون عبر عصور طويلة؛ من المفاضلة بين الجنسين إلى أن تحققت المعادلة الصّعبة، وصارت القصّة تمتحُ من الشعر، وصار النّفس الشعريّ بعضا من مسوح القصّة ومكوّناتها الأساسيّة.
دهشة العنوان..
وفي التسميّة نفسها نوع من المفارقة التي تستوقف القارئ لأوّل وهلة، قطيع وشجاعة.. ! أمر غريب إلى حدّ ما.. فلنتأمّل ذلك العنوان بشيء من النّبش الفنّي المفتوح على فهوم متعدّدة، لكنّها فهوم تطوف حول بوتقة واحدة تفيض بمعانٍ متقاربة ومتجاورة:
القطيع: فيه إيحاء أوليّ بأنّه قطيع حيوانات وهي تسمية إذا ما أسقطت على البشر، تحمل في طيّاتها الذّم والقدح، فيكون معناها في النّهاية هجاءً لا مدحًا، لكن إذا سُبقت بكلمة شجاعة: اختلف الأمر تماما، صار الذّمّ ثناء والهجاء مدحا، لكن يبقى في النّفس على كلّ حال ذلك الأثر السّيء الذي تتركه عادة كلمة القطيع في السّمع إذا ما عُني به النّاس. لكنّها في الوقت ذاته قد تعني الشّجاعة الزائفة التي تحمل صخرة سيزيف عنوانا أبديّا لجلد الذّات..
قراءة مفتوحة..
يبدأ الكاتب قصّته بدفق من الأقوال تشبه الحكم أو الأمثال السّائرة، كأنّها درر في عقد انفرط نظامه، لكنّ كلّ درّة منها تُضيء من ذاتها ولو لم تمسكها رابطة السّلك.. ( الشجاعة أن تمشي مع القطيع دون أن تعرف إلى أين، ولو سألت عن الوجهة فأنت جبان .. الشهامة أن تصرخ كما يصرخ جارك، و لو همست فأنت نذل.. الرجولة أن تثير الشغب كلّما رأيت شاحنة تحمل جرّافة، و لو تركتها تمر دون شغب فاذرف على رجولتك حفنة من الدموع ".
في القصّة الحديثة - القصّة التي تشبه الشعر، تشبه الأغنية الحزينة، أو النوّاح المكتوم - لا يوجد كثير من الأحداث، ولا كثير من الشّخوص، بل كثير من الفلسفة، وكثير من الأنا المتضخّم في الصّورة الكبرى، يضفي بظلاله على المشاهد كلّها. هي وقفة لتأمّل الذّات والمجتمع والأحداث أكثر منها حدث تُسرَد تفاصيله، ولذلك في الغالب تغيب الأسماء، ويغيب الزّمن وحتّى المكان نفسه، يمكن أن يكون في أيّ موقع من الأرض لا يهمّ، لأنّ المهم هو الفكرة المعالجة.. !
في هذه القصّة حديث عن جرّافة تحملها شاحنة، تريد إزالة صخرة أو شيء ما من مكانه، هذه الصّخرة هي مِلك للنّاس ( القطيع )، والبطل يجد نفسه مرغما على اتّباع القطيع ومسايرة الموجة الكاسحة (هكذا سمعتهم يرددون، وهكذا ردّدت ) ويقول (ومع ذلك مشيت معهم وجيوبي مدججة بالعواطف الملغمة )، ومسايرة البطل للتيار وانجرافه مع موجة ( شجاعة القطيع ) وضعته في موقف لا يحسد عليه، لقد خِيط له – كغيره من أفراد القطيع – ثوبا على مقاسه، الأمر الذي أزعجه جدّا وجعله يصرخ أو يتمنّى من أعماقه (من يلقي عليّ قميص يوسف لأخلع قميص الخياط ؟ )، وفي هذا المقطع صورة فنيّة من النمط العالي، إذ يجعل من التناصّ الفنّي مع قصّة يوسف عليه السّلام متكأ لتوصيل رسالته المشفّرة، فهو إذ يمشي ضمن القطيع كأنّما هو على عمى، بل هو في عمى مطبق، ولذلك أراد أن يتلّفت ويبصر ويعود إلى الأصل ( البصيرة )؛ كان في حاجة لمن يلقي عليه قميص يوسف فيرتدّ بصيرا، كما ألقي على يعقوب عليه السّلام قميص ابنه يوسف فارتدّ بصيرا..
لكنّ البطل لا يستمرّ طويلا في هذه الإمعيّة التي تمزّق أحشاءه، وتدمي فؤاده فيقدم على خطوة جريئة (مزقت ثوب التحفظ ،ورقّعت بقطعه ثوب الانتماء )، فالبطل إذاً يأبى أن يبقى مع القطيع متلفعا بشجاعة زائفة، ويعود إلى جذوره وانتمائه الأصلي الذي تشرّبه فكرا وعقيدة نقيّة..
ثمّ تأتي موجة أخرى من الحكم والأقوال المأثورة والتي هي من إنشاء الكاتب نفسه:
" لماذا في الطبيعة عندما تتأخر زهرة عن التفتح حتى يكتمل جمالها لا تتهم بالدمامة، وعندما يتوقف طائر حزين عن الغناء لا يتهم بداء التوحد، و عندما يمتنع سبع شبعان عن الافتراس لا يطعن في شراسته ؟ أليس الانتماء له نفس المعنى ،هنا كما هناك ؟! "
ورغم ذلك لم يستطع البطل الخلاص، وبقي يعاني من قوّة التيار الجارف الذي تصعب مقاومته، فإذا كان الأمر كذلك فلمَ لا يساير التيّار ويحقق ولو جزءا يسيرا من أهدافه وأمانيه..؟ (مازلت أمشي معهم لأحمي تلك الصخرة التي قالوا لي بأنها مباركة ) ثمّ يواصل قائلا (ما زلت أمشي..وأكرهت على قبول مسرحيتهم ولكن بشرط أن يسمحوا لي بالتغريد خارج النص ولو في مشهد واحد ).
ليس في هذه القصّة عقدة أو حلّ، لكن هناك إشكاليّة، هناك همّ إنساني مشترك يعاني منه الإنسان في كلّ مكان، أزمة يصعب الخلاص منها، إلّا لمن ألقي عليه قميص يوسف فارتدّ بصيرا، لا تخونه الرؤى ولا يخاتله السراب في متاهات صحاري الحياة.
والبديع في القصّة مكوناتها الفنيّة المتنوّعة كقوس قزح يبهر الرائين:
الصور الفنيّة المتلاحقة المتدافعة في زخم كثيف، الحكم والأمثال الكثيرة والتي صيغت بقلم المؤلّف؛ وتبدو كأنّها من الأمثال السّائرة المعتّقة، التناص والرمزيّة والتضمين من القرآن ( قصّة يوسف ) وعيون الشعر العربي ( المتنبّي )، الذي قتله بيت من الشعر قاله. وانزياحات فنيّة أخرى يتبع بعضها بعضا، ويأخذ أولاها بأطراف أخراها، لتهب للقارئ نصّا فنيّا، مختلفا، نصّا فنيّا مدهشا..
هذا هو عبد القادر صيد الشّاعر الذي ولج عالم القصّة بتمكن واقتدار، دون أن يشيح بوجهه عن عالم الشعر، بل هو لا يزال تتجاذبه فتنتهما جميعا ( الشعر والقصّة )، وأراه في القصّة أكثر إدهاشا وأكثر قدرة على رسم الصورة الفنيّة الجديدة التي تقول للقارئ :
" هِيتَ لك "..
فهل تراها تغلّق عليه الأبواب.. !